سراب ترامب

الخطة تحقق ما أراده نتنياهو، وهو ترجمة ميزان القوة العسكرية في قطاع غزة والمنطقة العربية بعد عامين من الحرب، إلى بنود عامة تحصل فيها “إسرائيل” على التزامات بتحرير الأسرى “الإسرائيليين” من دون التزامات مقابلة عليها.
كشف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مساء أمس الإثنين، عن خطة العشرين بندا لإنهاء الحرب على قطاع غزة، وفي صلبها تحرير الأسرى “الإسرائيليين” خلال 72 ساعة منذ لحظة الإعلان عن قبولها، مقابل وقف إطلاق النار والانسحاب “الإسرائيلي” التدريجي المشروط بنزع سلاح المقاومة في غزة.
والخطة في جوانب عديدة منها سيئة للفلسطينيين، رغم دعم دول عربية وإسلامية رئيسية لها ومباركتها، فهي لا تضمن انسحابا كاملا للجيش “الإسرائيلي” من القطاع، وتؤكد إبقاء السيطرة الأمنية “الإسرائيلية” على القطاع، كما أنها تحوّل إدارة القطاع إلى جهة دولية وليست فلسطينية (“مجلس السلام” برئاسة ترامب رسميًا، وتوني بلير عمليًا)، فيما إدارة الشؤون اليومية للسكان في القطاع ستحوّل إلى لجنة خبراء (تكنوقراط) فلسطينيين، مستقلة وغير مسيسة، بحسب الخطة.
كما تشدد الخطة على نزع سلاح حماس من دون التزامات “إسرائيلية” واضحة بعدم تكرار الاعتداءات على القطاع، في موازاة نشر “قوات استقرار” دولية وعربية مع بقاء الجيش “الإسرائيلي” في محيط القطاع بما فيه محور صلاح الدين (فيلادلفيا).
وتنص الخطة على وقف فوري للحرب وإدخال المساعدات الإنسانية، وهي أمور ضرورية وملحة توقف المقتلة اليومية والتجويع الممنهج للفلسطينيين في غزة، وتلغي خطر تهجير الفلسطينيين من القطاع، وبذلك تحبط طموحات اليمين “الإسرائيلي” بتهجير الفلسطينيين وإقامة مستوطنات في غزة، لكنها لا تأتي على ذكر الضفة الغربية المحتلة ورفض ضمها “لإسرائيل”، بل تؤكد بذلك الفصل بين الضفة والقطاع.
وعلى الرغم من اعتبار رئيس الحكومة “الإسرائيلية”، بنيامين نتنياهو، أن الخطة تستوفي المبادئ الخمسة الرئيسية لحكومته لإنهاء الحرب على غزة، وهي: إعادة كافة الأسرى “الإسرائيليين” الأحياء والأموات؛ نزع سلاح حركة حماس؛ نزع السلاح من القطاع؛ سيطرة أمنية “إسرائيلية” على القطاع؛ إدارة مدنية للقطاع ليست محسوبة على السلطة الفلسطينية أو حركة حماس؛ إلا أنها في المقابل تقر بدور مستقبلي للسلطة الفلسطينية في القطاع مشروط بإجراء إصلاحات داخلية، كما أن الخطة تتطرق إلى حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وحقه بإقامة دولته، لكن بصياغات مواربة وفضفاضة، فيما أعلن نتنياهو رفضه لفكرة إقامة دولة فلسطينية واعتبر ذلك خطرا وجوديا على إسرائيل، فيما عبر ترامب عن تفهمه لموقف نتنياهو، كما عبر عن تأييده للحرب الإسرائيلية على غزة في حال رفضت حماس الخطة.
كما أن الحديث عن “أفق سياسي” للفلسطينيين رغم استمرار السيطرة الإسرائيلية على القطاع ووضعه تحت “سلطة انتداب” أجنبي، ربما يهدف أيضا إلى إتاحة الفرصة لتجديد المفاوضات لاتفاقيات تطبيع جديدة مع إسرائيل، إذ اشترطت السعودية وجود أفق سياسي للفلسطينيين نحو حل الدولتين مقابل أي تطبيع مع إسرائيل.
والخطة كما اسمها ليست مسودة اتفاق للتفاوض، بل أراد ترامب فرضها على الأطراف، وتحديدا حركة حماس، وهي تتبنى الموقف والسردية الإسرائيلية ولا ترى في القطاع إلا “بؤرة تطرف وإرهاب”، وليس أن سكانه مدنيون وجزء من شعب يعيش تحت الاحتلال منذ نحو 80 عاما، فرغم أن الخطة تحاول أن “ترسم أفقا للتعايش” بين الشعبين، إلا أنها عمليا تفرض انتدابا أجنبيا جديدا على القطاع.
على أية حال، فإن الخطة تحقق ما أراده نتنياهو، وهو ترجمة ميزان القوة العسكرية في قطاع غزة والمنطقة العربية بعد عامين من الحرب، إلى بنود عامة تحصل فيها إسرائيل على التزامات بتحرير الأسرى الإسرائيليين من دون التزامات مقابلة عليها، بل بالعكس، كان المؤتمر الصحافي المشترك لترامب ونتنياهو أمس، مليئا بالتهديدات للفلسطينيين والمقاومة في غزة في حال رفضت قبول الخطة.
كما هو معلوم، فإن الخيارات ليست عديدة أمام حركة حماس، ورفضها يعني تصعيد الحرب على المدنيين في القطاع، أما قبولها يعني وقف الحرب فورا على القطاع رغم كل البنود السيئة في الخطة، وذلك بحكم الأمر الواقع وهو نزيف الغزيين المستمر منذ عامين من جهة، ورداءة المشهد السياسي الفلسطيني، والمباركة العربية والإسلامية للخطة، ودعم ترامب للحرب على غزة.
وقال نتنياهو صباح اليوم الثلاثاء في فيديو قصير، إن ما حدث في البيت الأبيض قلب الموازين، إذ صارت حركة حماس في عزلة بدلا من عزل إسرائيل دوليا، وأن الخطة لا تلزم إسرائيل بالانسحاب الكامل من القطاع، وأنه لن يقبل بإقامة دولة فلسطينية، وهي رسائل موجهة لقواعده الانتخابية اليمينية، بالتزامن مع تزايد الحديث في الأيام الأخيرة في الإعلام الإسرائيلي عن احتمالية تبكير موعد الانتخابات لبداية العام المقبل 2026، إذا ما توقفت الحرب.
إذن، فإن الخطة الأميركية تسعى إلى تحرير الأسرى “الإسرائيليين” أولا وإبقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية على القطاع، وتعيين إدارة خارجية للقطاع، مقابل وقف الحرب وقبول الفلسطينيين بنزع سلاح مقاومتهم ودخول المساعدات، ووعود بإعادة الإعمار دون التزامات وخطط زمنية، وكأنها سراب، إلا بما يتعلق بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين خلال 72 ساعة.
هذا واقع مفخخ تماما كما خطة ترامب.
مصادر مطلعة لموقع “أكسيوس” الأمريكي رأت أن الخطة التي قدمها ترامب لإنهاء الحرب في غزة تضمنت تغييرات كبيرة عن تلك التي وافق عليها قادة الدول العربية والإسلامية، وأشارت الى أن نتنياهو هو من عدّلها بتغييرات كبيرة على الخطة، بشكل يخالف عن الخطة التي وافق عليها قادة مجموعة من الدول العربية والإسلامية خلال لقائهم ترامب.
وذكرت المصادر أن مبعوث البيت الأبيض ستيف ويتكوف وصهر ترمب جاريد كوشنر اجتمعا يوم الأحد مع نتنياهو ومساعده المقرب رون ديرمر لمدة 6 ساعات، وأضافت أن نتنياهو أدخل تغييرات على نص الخطة ولاسيما فيما يتعلق بشروط وجدول الانسحاب “الإسرائيلي” من قطاع غزة، ورأت المصادر أن تغييرات نتنياهو ربطت انسحاب “إسرائيل” من القطاع بالتقدم في نزع سلاح حماس، ومنحت تل أبيب “حق النقض” على مسار هذه العملية.
وتابعت المصادر لأكسيوس: حتى لو استُوفيت جميع الشروط (بما فيها سحب السلاح) وتم تنفيذ المراحل الثلاث من الانسحاب ستبقى القوات “الإسرائيلية” في منطقة أمنية داخل غزة وهو ما قد يعني بقاءها إلى أجل غير مسمى”. وقالت المصادر إن القطريين حاولوا إقناع إدارة ترامب بعدم نشر الخطة المفصلة يوم الاثنين بسبب التغييرات، لكن البيت الأبيض نشرها وحثّ الدول العربية والإسلامية على دعمها.