تحليل: “نهاية الغرب” صيحة فزع عابرة أم منعطف في تاريخ العالم؟
ماذا تعني السجالات المتجددة في الغرب وخارجه على إيقاع تطورات حرب أوكرانيا والأزمة مع الصين، حول سيناريو “نهاية الغرب”. فهل هي مجرد صيحات فزع عابرة إزاء أزمات متتالية أم هي استشراف فكري لتحولات تاريخية عميقة؟
تتجدد السجالات في أوروبا والولايات المتحدة حول سيناريوهات نهاية نفوذ الغرب التي تغذيها منذ سنوات إصدارات ومقالات لمفكرين وخبراء الاستراتيجيات، والتي تحمل عناوين مثل كتاب “موت الغرب” الذي صدر منذ سنوات للأمريكي باتريك جيه بوكانان الخبير ومستشار رؤساء أمريكيين، في ذروة الجدل حول الهجرة وأزمة النمو الديمغرافي بأوروبا. وهناك مقالة “وداعا للغرب” لوزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر التي قدم من خلالها رؤية متشائمة لمستقبل الغرب إثر صعود الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب سنة 2016، وأعقبتها مقولة “الموت السريري لحلف الناتو” التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وفي ضوء تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، تظهر مقالات وإصدارات جديدة حول “نهاية الغرب”، ضمنها مقالة للباحث الألماني المتخصص في التاريخ المعاصر، بجامعة كونستاتس الألمانية، ألبريشت كوشوركه، بعنوان “أيام الغرب باتت معدودة”. وينضم إلى هذه التنبؤات التاريخية والرؤى الاستراتيجية مفكرون وخبراء من عالم “الجنوب”، مثل الكاتب والخبير جورجيو رومانو شيوته، أحد أبرز منظري السياسة الخارجية في البرازيل.
“الغرب لا يفهم الجنوب”
في مقال للباحث في العلاقات الدولية والاقتصاد بجامعة اي بي سي الفيدرالية البرازيلية، جورجيو رومانو شيوته، صدر في ثالث أبريل/ نيسان الحالي بموقع مجلة اي بي جي المتخصصة في العلاقات الدولية والسياسة الأوروبية بعنوان “نهاية الغرب”، يرى أن حرب أوكرانيا كشفت عن عدد من الحقائق المُرّة، فقد أثبتت أن قادة أوروبا وقادة الرأي فيها “ليس لديهم مطلقا أي فكرة عن وجهات نظر وانتظارات العالم غير الغربي المعروف الآن باسم ‚الجنوب العالمي‘..”. ويرى بأن عدم اتباع دول مثل البرازيل وجنوب إفريقيا والهند “بشكل أعمى لروايات وسياسات دول الناتو وحلفائها لا ينبغي أن يفاجئ أحداً”، ويستدرك قائلا “هذا لا يعني أنهم يوافقون على الغزو الروسي لأوكرانيا”.
ويقترح باحثون مثالا آخر في هذا السياق، على ما يصفونه بالسياسة “غير الأخلاقية” التي تحكم مراكز نفوذ غربية. فبينما يجري اتهام الهند باستغلال أوضاع حرب أوكرانيا وزيادة وارداتها النفطية من روسيا بأسعار رخيصة، تجني شركات النفط الغربية أرباحًا قياسية، فقد اتهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس شركات غربية كبيرة بتحقيق “أرباح غير أخلاقية على ظهور أفقر الفقراء”. ناهيك عن المكاسب التي يجنيها الاقتصاد الأمريكي من فائض أرباح المجمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة.
ويتساءل محللون كيف ينبغي للدول الأفريقية أن تستجيب للجهود الدبلوماسية التي يبذلها القادة الأوروبيون الذين كانوا يضغطون من أجل المزيد من واردات الوقود الأحفوري من أفريقيا منذ الغزو، بعد سنوات من القول إنهم لن يمولوا استثمارات الوقود الأحفوري؟
وإذا كانت الحرب في أوكرانيا تمثل بالنسبة لألمانيا “نقطة تحول”، فهي ليست كذلك بالنسبة لجنوب الكرة الأرضية، يلاحظ رومانو شيوته، مستنتجا بأن الغرب لا يمكن أن يقدم نفسه كقدوة أخلاقية للعالم، بينما هو مسؤول تاريخيا عن حروب استعمارية وعن غزو بلدان في العالم الإسلامي، إضافة إلى دعم حرب اليمن التي تسببت في أكبر أزمة إنسانية!
وثمة فكرة مركزية في الانتقادات التي يوجهها قادة في جنوب الكرة الأرضية للغرب، تتمثل في عدم تمييزه بين المنطق الذي يستند إليه في سياسته الخارجية والدفاعية بقيادة حلف الناتو وبين منظور الشرعية التي يقوم عليها النظام الدولي. وفي العام الماضي تصدر وزير الخارجية الهندي سوبرا امنيام جاي شانكار وسائل الإعلام العالمية بتصريحاته التي قال فيها: “على أوروبا التخلي عن فكرة أن مشكلاتها هي مشكلات العالم، لكن مشاكل العالم ليست مشكلات أوروبا”.
وعبر الفجوة بين نظرتي الغرب ودول الجنوب، تجد السياسة الخارجية الروسية مسوغات لتمرير خطابها لدى دول الجنوب المتذمرة من السياسات الغربية وازدواجية معاييرها. وأبرز مثال على ذلك، نجاح الدبلوماسية الروسية في كسب موقف أوبك بلس (منظمة الدول المصدرة للنفط)، التي تضم دولا حليفة تقليديا للولايات المتحدة.
ألبريشت كوشوركه، الباحث الألماني المتخصص في التاريخ المعاصر، جامعة كونستاتس الألمانية، يرى أن أيام الغرب باتت “معدودة”، في مقال له نشر في الثالث من مارس/ آذار الماضي بصحيفة “دي تسايت” الألمانية.
كما يواجه الغرب مساءلة أخلاقية حول عدم التوازن بين انحيازه لأوكرانيا ومدى مراعاته لأوضاع البؤس ومعاناة دول عديدة في مناطق جنوب الكرة الأرضية. وتعني مقولة “أيام الغرب معدودة” كقوة مهيمنة، أن العالم على أبواب نظام عالمي متعدد الأقطاب.
اهتزاز أعمدة النظام الأحادي القطبية؟
هل بات النظام العالمي القائم على النفوذ المركزي الغربي بوجهيه المالي والاقتصادي والجيوسياسي، سواء نظام” بريتون وودز” الذي يرتز على المؤسسات المالية والنقدية التي أسست بعد الحرب العالمية الثانية، أو نظام “الردع والتفوق الأمريكي” الحاسم بعد الحرب الباردة وانهيار الإتحاد السوفيتي، يقف على حافة نهايته؟
على الصعيد الجيوسياسي، تظهر تطورات حرب أوكرانيا مؤشرات مزدوجة على مكامن الخلل في أمن أوروبا وقوة الردع الأمريكية؛ الذي يرى خبراء الاستراتيجيات بأن “الردع الأمريكي” لا يؤدي غرضه. وبعيدا عن سيناريوهات الحرب النووية “المستبعدة”، لا يبدو أن نموذج الردع الأمريكي يحقق أغراضه كثيرا في الآونة الأخيرة، حسبما يرى الباحثان الجنرال الأمريكي المتقاعد جون ار. آلين ومايكل ميكلاوسيك.
ويقول آلين وميكلاوسيك، وهما زميلان في جامعة الدفاع الوطني الأمريكية في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية إنه لا يبدو أن أعداء الولايات المتحدة – وأساسا روسيا والصين- يخافون من خطر الفشل في تحقيق أهدافهم أو الخوف من التعرض للانتقام. ويرى الخبيران الأمريكيان أن الردع يتطلب مصداقية، وهذا ما يفتقده الغرب بوجه عام والولايات المتحدة بوجه خاص، بسبب النهج الاستراتيجي الغامض والمتردد، في حرب أوكرانيا وفي مواجهة المبادرات الصينية في مضيق تايوان.
ومن جهته يتوقع الباحث الألماني ألبريشت كوشوركه أن تؤدي حرب أوكرانيا إلى هزيمة ثلاثية: لأوكرانيا وروسيا والغرب الذي لن يخرج بالضرورة منتصرا من هذه الحرب. وانطلاقا من تداعيات العقوبات التي فرضها على روسيا، كان على الغرب أن يستنتج منذ العام الماضي كيف أن “قوته الإبداعية” تتلاشى على الصعيد الدولي.
وعلى الصعيد المالي والاقتصادي، تتعالى الأصوات في جنوب الكرة الأرضية لمراجعة قواعد وآليات عمل المنظومة المالية والنقدية العالمية التي يتحكم الغرب بها وتتهمه دول الجنوب بأنه يجني من وراء برامجها مكاسب وأرباح طائلة.
وفي تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء قال ميهير شارما وهو زميل كبير لمؤسسة أوبزرفر ريسيرش فاوندشن بنيودلهي ومؤلف كتاب “إعادة التشغيل: الفرصة الأخيرة”، إن عدد الدول النامية التي تواجه أزمة ديون سيادية كبيرة وصل إلى مستوى قياسي بسبب جائحة فيروس كورونا والتضخم الذي أشعله الغزو الروسي لأوكرانيا. لذلك يجب أن تكون مساعدة هذه الدول على رأس أولويات صندوق النقد والبنك الدوليين، وليس أوكرانيا التي يفترض أن تتولى الدول الغربية مساعدتها، وفق ما يقترح التحليل.
وفي حين يفرض الصندوق شروطا بالغة الصعوبة على دول مثل بنغلاديش وباكستان وسريلانكا مقابل منحها مليارات قليلة من الدولارات، أو حتى الاحجام عن منحها مثل حالتي تونس ولبنان، تراه يقدم المزيد من الأموال لأوكرانيا ثالث أكبر دولة مقترضة منه دون أن تلتزم بمثل تلك الشروط.
وفي أتون المفارقات المتزايدة بين منظور الغرب ودول جنوب الكرة الأرضية، ينمو الوعي لدى هذه الأخيرة بضرورة تعميق تعاونها بشكل أكثر وضوحا، عبر تحديد أولويات مثل مكافحة الفقر والجوع ومواجهة أزمات المناخ والأوبئة. وثمة مؤشرات متزايدة على حراك عالمي باتجاه الخروج عن الهيمنة الغربية، يمكن رصدها في اجتماعات مجموعة العشرين ومن خلال تزايد الاعتماد حتى من قبل الدول الحليفة تقليديا للولايات المتحدة وأوروبا، مثل السعودية – أكبر احتياطي للنفط في العالم- على الشراكة مع الصين.
وهذا ما يفسر أيضًا سبب إبداء المزيد من البلدان اهتمامها بالمساهمة في منظمة بريكس وبنك التنمية الجديد، برأي الباحث البرازيلي شيوته مستنتجا أن “العالم القائم على نظرية المركزية الأوروبية يقترب من نهايته، وهنالك تشكيك في تفوق القوة الأمريكية.
أوروبا وأمريكا.. زواج كاثوليكي؟
في الوقت الذي تبدو فيه استراتيجية تعميق التحالف الغربي سواء على مستوى الصناعات العسكرية وضمن حلف الناتو أو الترابط التجاري والاقتصادي عبر تسريع المفاوضات حول اتفاقيات التجارة الحرة بين أمريكا والإتحاد الأوروبي، كخيار مصيري في نظر تيار واسع من الساسة وقادة الرأي في أوروبا، كسبيل لمواجهة التحدي الصيني ومواجهة غزو روسيا لأوكرانيا وتهديداتها (روسيا) لأمن أوروبا.
ويطرح آلين و ميكلاوسيك في المقال الذي الذي نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية، خيارات لاستعادة الغرب المبادرة الاستراتيجية وتفعيل نظرية الردع، إذ يستنتج الخبيران الأمريكيان بأن الأمر الواضح هو أن الحقيقة الأساسية لنظرية الردع تظل ثابتة؛ ويسجلان بأنه بقدر ما كانت إعادة بناء قوات الدفاع الغربية خلال العقد الماضي هائلة، فإنه “للأسف كان يتم أيضا إضعافها من حين لآخر من خلال التضارب والغموض في اتخاذ القرارات واستراتيجيات المواجهة”.
وبرأي البروفيسور ميشائل مازار كبير خبراء مؤسسة “راند” الأمريكية ( هيئة تفكير وبحث/ think tank) تأسست بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لتقديم المشورة للبنتاغون)، فإن الولايات المتحدة ما تزال بحاجة ماسّة لأوروبا وبأن استراتيجية “آسيا أولا” النابعة من عقيدة مواجهة التحدي الصيني، تحمل “وعدا كاذبا”. في مقال للخبير الاستراتيجي الأمريكي صدر في السابع عشر من أبريل/ نيسان الحالي بمجلة “فورين أفيرز” في عددها الربيعي، يرصد “تطورًا محيرًا في تفكير الأمن القومي الأمريكي” تثيره الحرب في أوكرانيا. ففي نفس الوقت الذي تصاعد فيه التعاون بين الولايات المتحدة وأوروبا، بدأت مجموعة مؤثرة من العلماء والمحللين والمعلقين الأمريكيين في الضغط على صانعي القرار للاستعداد لتقليص التزامها تجاه أوروبا بشكل جذري. والفكرة الأساسية ليست جديدة: فقد طالب الواقعيّون الذين يركزون على ضبط النفس، الولايات المتحدة منذ فترة طويلة بإعادة التفكير في وضعها الأمني في أوروبا.
وبخلاف “صقور الصين” في دوائر الذين يحذرون صانعي القرار السياسي في واشنطن من تزايُد الانفاق العسكري الصين، يقترح دعاة التعايش مع الصعود الصيني مواصلة سياسة الاحتواء القائمة على “الشراكة والحصار” تجاه بكين والمستمرة منذ خمسين عاما إبان حقبة وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر. ويرى هؤلاء بأن هذه السياسة قد نجحت باحتواء الصين إلى حد كبير في إطار العولمة التي دعمها الغرب حتى أواخر العقد الماضي، أي حتى وصول الرئيس السابق دونالد ترامب إلى الحكم، بينما أسهمت سياسة الحذر والحصار غير المباشر عن طريق القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة في كبح طموحات بكين خلال العقود الثلاثة الماضية.
ومقابل هذه الآراء ترتفع أصوات في أوروبا، تدعو لتوخي استراتيجية مستقلة، ولاسيما في مواجهة سيناريو مواجهة أمريكية صينية حول تايوان. ومن أبرزها تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقابلة مع صحيفة “ليزيكو” الاقتصادية الفرنسية قال فيها إن “أسوأ شيء هو الاعتقاد أننا نحن الأوروبيين يجب أن نكون أتباعًا” حول مسألة تايوان و “أن نتكيّف مع الإيقاع الأمريكي ورد الفعل الصيني المبالغ فيه”.
وأثارت تصريحات ماكرون ردود فعل غاضبة في الولايات المتحدة وحتى لدى طيف الساسة وقادة الرأي في ألمانيا وأوروبا، حيث أثارت علامات استفهام عديدة إزاء العلاقة مع الصين، وحول مستقبل السياسة الدفاعية في إطار حلف الناتو.
وإن كان عدد من المراقبين يذكّرون بتقاليد فرنسا الاستقلالية منذ حقبة الجنرال دوغول، إزاء حلف الأطلسي، فإن تصريحات سابقة للرئيس ماكرون إبان إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب تحدث فيها عن “موت سريري لحلف الناتو”، تبيّن أن الرئيس الفرنسي يعني ما يقول بشأن استقلال أوروبا عن الولايات المتحدة في السياسة الخارجية والدفاعية، وهو هدف يلتقي فيه إلى حد كبير مع عدة قادة أوروبيين ومن أبرزهم المستشار الألماني شولتش، لكن ذلك في المنظور بعيد المدى.
وقد قللت وزير الخارجية الألمانية آنا لينا بيربوك خلال زيارتها إلى بكين من شأن الانتقادات الأوروبية التي وجهت للرئيس ماكرون، لكنها لمحت إلى أن تصريحات ماكرون نابعة من “قواسم مشتركة متفق عليها بين الأوروبيين بشأن الصين”.
كما أن ألمانيا لا تخفي سعيها للتخلص من تبعية اقتصادها للصين، وهي تبحث عن كثب عن بدائل لتفادي السقوط في سيناريو مشابه ليسناريو التبعية للطاقة الروسية، والذي كلفها ثمنا باهضا منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
لكن ما يثير الخلافات بين القادة الأوروبيين في الوقت الراهن، بشأن تصريحات ماكرون الأخيرة أنهم أخذوا عليه أن اختيار كلماته في المقابلة مع “ليزيكو” لم يكن موفقا بالنظر إلى دور الولايات المتحدة كأكبر داعم لأوكرانيا ولحماية الأمن الأوروبي.
ولا تتوقف الخلافات بين القادة الأوروبيين على الصعيد الظرفي المرتبط بمتطلبات الحرب في أوكرانيا، بل تشمل تصوراتهما للسياسة الدفاعية على المدى المتوسط، إذ تعتمد ألمانيا ودول أوروبية في شرق ووسط وشمال القارة الأوروبية في تحديث جيوشها على الصناعات العسكرية الأمريكية والإسرائيلية.
وتنظر فرنسا بقلق لهذه التطورات وترى فيها خطوات استراتيجية متعارضة مع برامج عسكرية أوروبية مشتركة، مثل مشروع مقاتلات “اليورو فايتر” المتعثر، وبرنامج القيادة الفرنسية الطموح لبناء جيش أوروبي. فهي تنظر بعين الريبة لخطوات شركائها الأوروبيين وخصوصا ألمانيا- شريكها في “المحرك الفرنسي الألماني لأوروبا” – Le couple franco-allemand، بتعميق تعاونها مع الولايات المتحدة، وتنظر باريس إلى ذلك على أنه بمثابة إعلان “موت سريري” هذه المرة لمشاريع القوة الأوروبية المستقلة عن الولايات المتحدة، والتي يفترض أن يكون زمام المبادرة والقيادة فيها لفرنسا باعتبارها تمثل حاليا القوة العسكرية والنووية الأولى في دول الإتحاد الأوروبي.
عوامل التفوق الغربي
ويبدو أن الجدل في أوروبا والولايات المتحدة حول مستقبل الغرب ودوره القيادي للنظام العالمي، لا يخرج في جوهره عن إطار تفوق القوة الأمريكية والغربية في مجالات جيوسياسية واستراتيجيات عسكرية وعن حجم تشابك المصالح الاقتصادية الأوروبية والأمريكية.
ورغم ما يرافق هذا الجدل، من تساؤلات وتشكيك في تراجع مكانة أوروبا والغرب كقدوة أخلاقية، إلا أن السجالات الإعلامية والسياسية والأكاديمية حول مستقبل الغرب، بما فيها نظرية “نهاية الغرب” لا تشمل لحد الآن عوامل أخرى أساسية تشكل مقومات القوة والتفوق الغربي، وتتعلق بالتفوق العلمي والتكنولوجي ومنظومات تقنيات الإعلام والفكر والتعليم والتكوين التي تعتمد عليها أنساق مجتمعية عديدة في العالم. كما أن تلك السجالات كثيرا ما تتجاهل ثلاثة حقائق جوهرية:
أولها، أن الغرب ليس وحدة متجانسة بخلاف ما يظهر لمنتقديه، فهو متعدد في توجهات حكوماته ودوله، كما أنه متعدد في مكوناته غير الحكومية ويعتمد على مؤسسات مجتمع مدني ومجتمعات معرفة وفئات رأي عام يقظة وحاملة لقيم إنسانية كحقوق الانسان والحريات وقواعد التعددية السياسية والفكرية والدينية التي بُنيت عليها الليبرالية منذ ثلاثة قرون ولم تظهر لحد الآن بدائل عالمية تقوضها.
ثانيها، أن إحدى أهم مقومات الفكر الغربي هو استناده إلى قاعدة النقد والتقييم الذاتي وحرية الفكر، وهو ما منحه في مراحل الأزمات التاريخية، باستمرار منهجية تفكير لبناء تصورات مستقبلية وبدائل ومخارج في أصعب اللحظات التاريخية، سواء تعلق الأمر بأزمات داخلية مثل قضايا صعود اليمين المتطرف والشعبوي وأزمات الهجرة وارتفاع معدل الشيخوخة في المجتمعات الأوروبية أو أزمات على صعيد العلاقات الدولية مثل حروب الخليج والعراق وأفغانستان والحرب على الإرهاب وصولا إلى حرب أوكرانيا.
ألم يبلغ النقد الذاتي في الغرب ذروته قبل قرن عندما تنبأ المؤرخ والفيلسوف الألماني أوزفالد اشبنغلر بـ “أفول الغرب” وعنون بها كتابه الذي تضمن رؤيته لانحدار وسقوط الغرب كحتمية تاريخية واقعية تعم الحضارات ولا تستثني الحضارة الغربية.
ويمنح التفكير النقدي الغرب أدوات فعالة لتطوير أوضاعه والخروج من المآزق التاريخية، بخلاف ما كان عليه الحال مثلا في المعسكر السوفيتي الذي تفكك وانهار قبل ثلاثة عقود، بسبب نهجه الإمبريالي وقبضته الحديدية على شعوب عديدة ونظامه الاستبدادي وانغلاق المجتمع وغياب الفكر الحر.
ثالثها، أن المراجعات المطروحة لمنظومات النظام الدولي الاقتصادية والمالية وحتى المؤسساتية كمجلس الأمن، والدعوات لإقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب، لا ينبغي اعتبارها نظرية غير غربية رغم أن صدارتها تعتمد على فكرة تجريد الغرب قيادته الانفرادية للنظام الدولي. ذلك أن قادة أوروبيون وضمنهم مستشار ألمانيا أولاف شولتس والرئيس إيمانويل ماكرون، يطرحان بدورهما منذ سنوات، قبل حرب أوكرانيا، فكرة إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب.
وإذا كان من استنتاج أولي من السجالات الجارية عالميا حول مستقبل النظام العالمي، يمكن القول أن العالم يقف اليوم على حدود نظرية “نهاية التاريخ” التي طرحها المفكر الأمريكي فرانسيس فوكو ياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، سنة 1992، بعد سقوط جدار برلين و”إمبراطورية الشر” (الاتحاد السوفياتي سابقًا). وطرح فوكو ياما في نظريته أن صراع الأيديولوجيات والحضارات انتهى بنهاية الحرب الباردة، ومما يعنيه ذلك سيادة الديمقراطية الليبرالية وقيمها عن الحرية والفردية والمساواة والعولمة والليبرالية الاقتصادية، باعتبارها تشكل ذروة التطور الأيديولوجي للإنسان وعدم وجود بديل أفضل. وهناك توقف التاريخ عن الكتابة والتطور بالمعنى الحضاري والثقافي، كما يقول المفكر الأمريكي.
وكما يقف العالم اليوم بعد ثلاثة عقود من انهيار جدار برلين على حدود نظرية “نهاية التاريخ”، فإن نظرية “نهاية الغرب” ليس سوى صدى لأفكار وحراك يؤشر إلى قرب نهاية حقبة القيادة المنفردة الأمريكية للنظام العالمي، وبوادر قيام نظام عالمي متعدد الأقطاب، ولكن هل يعني ذلك تفكك الغرب وانهياره أم أن الأمر يتعلق بتحول في مكانة الغرب من مركز الانفراد بالقيادة إلى مركز يتشارك فيها مع قوى صاعدة، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة عدم احتفاظه على الأقل في مدى متوسط بمركز الصادرة عالميا.
تساؤلات مشروعة تحتاج فترة زمنية للإجابة عنها!
المصدر: DW عربية